فصل: سئل: هل الدعاء عقيب الفرائض أم السنن؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل الأفضل فيها سرًا أم جهرًا‏؟‏ وهل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ازعجوا أعضاءكم بالصلاة علي‏)‏ أم لا‏؟‏ والحديث الذي يروي عن ابن عباس أنه أمرهم بالجهر ليسمع من لم يسمع‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

أما الحديث المذكور، فهو كذب موضوع، باتفاق أهل العلم‏.‏ وكذلك الحديث الآخر‏.‏ وكذلك سائر ما يروى في رفع الصوت بالصلاة عليه، مثل الأحاديث التي يرويها الباعة لتنفيق السلع، أو يرويها السؤال من قصاص وغيرهم لجمع الناس وجبايتهم، ونحو ذلك‏.‏

والصلاة عليه هي دعاء من الأدعية، كما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته حين قالوا‏:‏ قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك فقال‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏ اللهم صل على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏.‏ وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ والسنة في الدعاء كله المخافتة، إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر/ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى عن زكريا‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3‏]‏‏.‏ بل السنة في الذكر كله ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر، فجعلوا يرفعون أصواتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيها الناس، أرْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصَمَّ، ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏‏.‏ وهذا الذي ذكرناه في الصلاة عليه والدعاء، مما اتفق عليه العلماء، فكلهم يأمرون العبد إذا دعا أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما يدعو، لا يرفع صوته بالصلاة عليه أكثر من الدعاء، سواء كان في صلاة، كالصلاة التامة، وصلاة الجنازة، أو كان خارج الصلاة، حتى عقيب التلبية، فإنه يرفع صوته بالتلبية، ثم عقيب ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو سرًا، وكذلك بين تكبيرات العيد إذا ذكر الله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه وإن جهر بالتكبير، لا يجهر بذلك‏.‏

وكذلك لو اقتصر على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة مثل أن يذكر فيصلي عليه، فإنه لم يستحب أحد من أهل العلم رفع/ الصوت بذلك، فقائل ذلك مخطئ مخالف لما عليه علماء المسلمين‏.‏

وأما رفع الصوت بالصلاة أو الرضا الذي يفعله بعض المؤذنين قدام بعض الخطباء في الجمع، فهذا مكروه أو محرم، باتفاق الأمة، لكن منهم من يقول‏:‏ يصلي عليه سرًا، ومنهم من يقول‏:‏ يسكت‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عمن يقول‏:‏ ‏(‏اللهم صلِ على سيدنا محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقي من صلاتك شيء وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وارحم محمدًا وآل محمد حتى لا يبقى من رحمتك شيء، وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء‏)‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، ليس هذا الدعاء مأثورًا عن أحد من السلف‏.‏ وقول القائل‏:‏ حتى لا يبقى من صلاتك شيء، ورحمتك شيء ـ إن أراد به أن ينفد ما عند الله من ذلك ـ فهذا جاهل‏.‏ فإن ما عند الله من الخير لا نفاد له ـ وإن أراد أنه بدعائه معطيه جميع ما يمكن أن يعطاه، فهذا ـ أيضًا ـ جهل‏.‏ فإن دعاءه ليس هو السبب الممكن من ذلك‏.‏

/ وسئل عن أقوام حصل بينهم كلام في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم منهم من قال‏:‏ إنها فرض واجب في كل وقت، ومن لا يصلي عليه يأثم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هي فرض في الصـلاة المكتوبة؛ لأنها من فروض الصلاة، وما عدا ذلك فغير فرض؛ لكن موعود الذي يصلي عليه بكل مرة عشرة‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين أنها واجبة في الصلاة، ولا تجب في غيرها، ومذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد في الرواية الأخرى أنها لا تجب في الصلاة، ثم من هؤلاء من قال‏:‏ تجب في العمر مرة، ومنهم من قال‏:‏ تجب في المجلس الذي يذكر فيه، والمسألة مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صلى علي مرة، صلى الله عليه عشرًا‏.‏ ومن صلى على عشرًا، صلى الله عليه مائة‏.‏ ومن صلى على مائة، صلى الله عليه ألف مرة‏.‏ ومن لم يصل علي، يبقي في قلبه حسرات ولو دخل الجنة‏)‏‏.‏ إذا صلى العبد على الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي الله على ذلك العبد أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من صلى على مرة، صلى الله عليه عشرًا‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏ما اجتمع قوم في مجلس فلم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا فيه علي، إلا كان عليهم تُرَّة يوم القيامة‏)‏‏.‏ والتُّرة‏:‏ النغص والحسرة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئـل‏:‏ هل يجوز أن يُصَلَّى على غير النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يقال‏:‏ اللهم صلِ على فلان‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، قد تنازع العلماء‏:‏ هل لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم مفردًا‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ المنع، وهو المنقول عن مالك، والشافعي، واختيار جدي أبي بركات‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يجوز وهو المنصوص عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه‏:‏ كالقاضي، وابن عقيل، والشيخ عبد القادر‏.‏ واحتجوا بما روي عن علي أنه قال لعمر‏:‏ صلى الله عليك‏.‏

واحتج الأولون بقول ابن عباس‏:‏ لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد، إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا الذي قاله ابن عباس، قاله لما ظهرت الشيعة، وصارت تظهر الصلاة على علي دون غيره، فهذا مكروه منهي عنه، كما قال ابن عباس‏.‏

وأمـا مـا نقل عـن علي، فإذا لم يكن على وجه الغلو وجعل ذلك شعارًا لغير الرسـول، فهذا نوع من الدعاء، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع منه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام / في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث‏)‏‏.‏ وفي حديث قبض الروح‏:‏ ‏(‏صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه‏)‏‏.‏

ولا نزاع بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على غيره كقوله‏:‏ ‏(‏اللهم صلِ على آل أبي أوفى‏)‏ وأنه يصلي على غيره تبعًا له، كقوله‏:‏ ‏(‏اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

 

فصـــل

المنصوص المشهور عن الإمام أحمد، أنه لا يدعو في الصلاة إلا بالأدعية المشروعة المأثورة، كما قال الأثرم‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ بماذا أدعو بعد التشهد‏؟‏ قال‏:‏ بما جاء في الخبر‏.‏ قلت له‏:‏ أو ليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثم ليتخير من الدعاء ما شاء‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ يتخير مما جاء في الخبر‏.‏ فعاودته، فقال‏:‏ ما في الخبر‏.‏ هذا معنى كلام أحمد‏.‏

قلت‏:‏ وقد بينت بعض أصل ذلك، لقوله‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏، وأن الدعاء ليس كله جائزًا، بل فيه عدوان محرم، والمشروع / لا عدوان فيه، وأن العدوان يكون تارة في كثرة الألفاظ، وتارة في المعاني، كما قد فسر الصحابة ذلك؛ إذ قال هذا لابنه لما قال‏:‏ اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، وقال الآخر‏:‏ أسألك الجنة وقصورها، وأنهارها، وأعوذ بك من النار، وسلاسلها وأغلالها‏.‏ فقال‏:‏ أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطَّهور‏)‏‏.‏ والاعتداء يكون في العبادة وفي الزهد‏.‏ وقول أحمد‏:‏ بما جاء في الخبر، حسن، فإن اللام في الدعاء للدعاء الذي يحبه الله، ليس لجنس الدعاء، فإن من الدعاء ما يحرم‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما جاز من الدعاء خارج الصلاة، جاز في الصلاة، مثل سؤاله‏:‏ دارًا، وجارية حسناء‏.‏

قيل‏:‏ ومن قال‏:‏ إن مثل هذا مشروع خارج الصلاة، وأن مثل هذه الألفاظ ليست من العدوان‏؟‏ وحينئذ، فيقال‏:‏ الدعاء المستحب هو الدعاء المشروع، فإن الاستحباب إنما يتلقى من الشـارع فما لم يشرعه لا يكون مستحبًا، بل يكون شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فإن الدعاء من أعظم الدين، لكن إذا دعا بدعاء لم يعلم أنه مستحب، أو علم أنه جائز غير مستحب، لم تبطل صلاته بذلك‏.‏ فإن الصلاة إنما تبطل بكلام الآدميين، والدعاء ليس من جنس كلام الآدميين، بل هو /كما لو أثني على الله بثناء لم يشرع له، وقد وجد مثل هذا من بعض الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه كونه أثني ثناءً لم يشرع له في ذلك المكان، بل نفي ما له فيه من الأجر‏.‏ ومن الدعاء ما يكون مكروهًا ولا تبطل به الصلاة، ومنه ما تبطل به الصلاة‏.‏ فالدعاء خمسة أقسام‏.‏

الذي يشرع هو الواجب والمستحب‏.‏ وأما المباح، فلا يستحب، ولا يبطل الصلاة‏.‏ والمكروه يكره ولا يبطلها، كالالتفات في الصلاة، وكما لو تشهد في القيام، أو قرأ في القعود‏.‏ والمحرم يبطلها؛ لأنه من الكلام‏.‏ وهذا تحقيق قول أحمد‏.‏ فإنه لم يبطل الصلاة بالدعاء غير المأثور، لكنه لم يستحبه؛ إذ لا يستحب غير المشروع‏.‏ وبين أن التخيير عاد إلى المشروع، والمشروع يكون بلفظ النص وبمعناه، إذ لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بلفظ واحد، كالقراءة‏.‏

ولهذا لما كانت صلاة الجنازة مقصودها الدعاء، لم يوقت فيها وقتًا‏.‏ ولما كان الذكر أفضل، كان أقرب إلى التوقيت، كالأذان والتلبية، ونحو ذلك‏.‏

فأما قول الجد ـ رحمه الله ـ إلا بما ورد في الأخبار، وبما يرجع إلى أمر دينه، ففيه نظر‏.‏ فإن أحمد لم يذكر إلا الأخبار‏.‏ وأيضًا، /فالدعاء بمصالح الدنيا جائز، فإنه مشروع‏.‏ والدعاء ببعض أمور الدين قد يكون من العدوان، كما ذكر عن الصحابة، وكما لو سأل منازل الأنبياء‏.‏ فالأجود أن يقال‏:‏ إلا بالدعاء المشروع المسنون، وهو ما وردت به الأخبار، وما كان في معناه؛ لأن ذلك لم يوجب علينا التعبد بلفظه، كالقرآن‏.‏

ونحن منعنا من ترجمة القرآن؛ لأن لفظه مقصود‏.‏ وكذلك التكبير ونحوه‏.‏ فأما الدعاء، فلم يوقت فيه لفظ، لكن كرهه أحمد بغير العربية‏.‏ فالمراتب ثلاثة‏:‏

القراءة، والذكر، والدعاء باللفظ المنصوص، ثم باللفظ العربي في معنى المنصوص، ثم باللفظ العجمي‏.‏ فهذا كرهه أحمد في الصلاة‏.‏ وفي البطلان به خلاف، وهو من باب البدل‏.‏ وأهل الرأي يجوزون ـ مع تشددهم في المنع من الكلام في الصلاة‏.‏ حتى كرهوا الدعاء الذي ليس في القرآن، أو ليس في الخبر، وأبطلوا به الصلاة ـ يجوزون الترجمة بالعجمية، فلم يجعل بالعربية عبادة، وجوزوا التكبير بكل لفظ يدل على التعظيم‏.‏

فهم توسعوا في إبدال القرآن بالعجمية، وفي إبدال الذكر بغيره من الأذكار، ولم يتوسعوا مثله في الدعاء‏.‏ وأحمد وغيره من الأئمة/ بالعكس‏:‏ الدعاء عندهم أوسع، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه‏)‏ ولم يوقت في دعاء الجنازة شيئًا، ولم يوقت لأصحابه دعاء معينًا، كما وقت لهم الذكر، فكيف يقيد ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعاء، ويطلق ما قيده من الذكر، مع أن الذكر أفضل من الدعاء، كما قررناه في غير هذا الموضع‏؟‏

ولهذا توجب الأذكار العلمية ما لم يجب من الثنائية‏.‏

ولهذا كان أفضل الكلام بعد القرآن، الكلمات الباقيات الصالحات‏:‏ ‏(‏سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏)‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات لمن عجز عن القرآن، وقال‏:‏ ‏(‏هن أفضل الكلام بعد القرآن‏)‏ ولهذا كان أفضل الاستفتاحات في الصلاة، ما تضمنت ذلك، وهو قوله‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك‏)‏ لِمَا قد بيناه في غير هذا الموضع‏.‏

وذكرنا أن هذا ثناء، فهو أفضل من الدعاء، وهو ثناء بمعني أفضل الكلام بعد القرآن، وذلك مقتضي للإجابة، يبين ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ / ‏(‏من تعار من الليل، فقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏.‏ الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودعا استجيب له، وإن توضأ قبلت صلاته‏)‏ فقد أخبر أن هذه الكلمات الخمس، إذا افتتح بها المستيقظ من الليل كلامه، كان ذلك سببًا لإجابة دعائه، ولقبول صلاته، إذا توضـأ بعد ذلك‏.‏ فيكون افتتاح الصلاة بذلك سببًا لقبولها، وما فيها من الدعاء، أو حمد الله والثناء عليه قبل دعائه‏.‏ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث المسيء فقال‏:‏ ‏(‏كبر فاحمد الله، واثن عليه، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن‏)‏‏.‏

وأيضًا، ففي أحاديث أخر من أحاديث الافتتاح أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا‏)‏ وهذا معناها‏.‏

وأيضًا، فإنها مستحبة بين تكبيرات العيد الزوائد، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وتلك التكبيرات هي من جنس تكبيرات الافتتاح‏.‏

وأيضًا، ففي الحديث الآخـر من أحاديث الاستفتاح، أنه كان يكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، أو كما قال‏.‏ فتوافق معاني الأحاديث الكثيرة على معنى هذا الافتتاح، كتوافق معنى تشهد أبي /موسى وغيره على معني تشهد ابن مسعود‏.‏ وإذا كان الذكر الواحد قـد جاءت عامـة الأذكار بمعناه، كان أرجح مما لم يجئ فيه إلا حديث واحد؛ لأنه يدل على كثرة قصد النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المعاني، وما كثر قصده واختياره له كان مقدمًا على ما لم يكثر‏.‏

ويؤيد ذلك أن هذه الكلمات مشروعة في دبر الصلوات المكتوبات ـ أيضًا‏.‏ كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فتكون هي من الفواتح والخواتم التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإنه أوتي فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله‏:‏ هل الدعاء عقيب الفرائض، أم السنن، أم بعد التشهد في الصلاة‏؟‏

فأجاب‏:‏

السنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها ويأمر بها، أن يدعو في التشهد قبل السلام‏.‏ كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏

/وفي الصحيح ـ أيضًا ـ أنه أمر بهذا الدعاء بعد التشهد‏.‏ وكذلك في الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد قبل السلام‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت‏)‏ وفي الصحيح أن أبا بكر قال‏:‏ يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏‏.‏

وفي الصحيح أحاديث غير هذه، أنه كان يدعو بعد التشهد وقبل السلام، وكان يدعو في سجوده‏.‏ وفي رواية كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع، وكان يدعو في افتتاح الصلاة‏.‏ ولم يقل أحد عنه أنه كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام، بل كان يذكر الله بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، كما جاء في الأحاديث الصحيحة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسـئل عمن قال‏:‏ لا يجـوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسمًا، ولا يقول‏:‏ يا حنان، يا منان، ولا يقول‏:‏ يا دليل الحائرين، فهل له أن يقول ذلك‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد ابن حزم وغيره، فإن جمهور العلماء على خلافه، وعلي ذلك مضي سلف الأمة وأئمتها، وهو الصواب لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون‏:‏ هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا‏.‏ رواه ابن ماجه‏.‏ وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف‏.‏

وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين، لم يمكنه استخراجها من القرآن، وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال‏:‏ هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور‏.‏ فكل اسم يجهل حاله، يمكن أن يكون من المأمور، ويمكن أن يكون من المحظور‏.‏ وإن قيل‏:‏ لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة، قيل‏:‏ هذا أكثر من تسعة وتسعين‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا، ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث، مثل اسم/ ‏[‏الرب‏]‏، فإنه ليس في حديث الترمذي، وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم، كقول آدم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، وقول نوح‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 47‏]‏، وقول إبراهيم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏، وقول موسى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وقول المسيح‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 114‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏ حتى إنه يذكر عن مالك وغيره، أنهم كرهوا أن يقال‏:‏ يا سيدي، بل يقال‏:‏ يا رب، لأنه دعاء النبيين، وغيرهم، كما ذكر الله في القرآن‏.‏

وكذلك اسم ‏[‏المنان‏]‏ ففي الحديث الذي رواه أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع داعيًا يدعو‏:‏ اللهم إني أسألك بأن لك الملك، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى‏)‏ وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان‏.‏

وقد قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ لرجل ودعه، قل‏:‏ يا دليل الحائرين، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين‏.‏ وقد أنكر طائفة من أهل الكلام‏:‏ كالقاضي أبي بكر، وأبي الوفاء ابن عقيل، أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو /الدلالة التي يستدل بها، والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به، فالعبد يستدل به ـ أيضًا ـ فهو دليل من الوجهين جميعًا‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله وتر يحب الوتر‏)‏‏.‏ وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين، وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله جميل يحب الجمال‏)‏ وليس هو فيها‏.‏ وفي الترمذي وغيره أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله نظيف يحب النظافة‏)‏ وليس هذا فيها، وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا‏)‏ وليس هذا فيها‏.‏ وتتبع هذا يطول‏.‏

ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي‏:‏ ‏(‏الله‏.‏ الرحمن‏.‏ الرحيم‏.‏ الملك‏.‏ القدوس‏.‏ السلام‏.‏ المؤمن‏.‏ المهيمن‏.‏ العزيز‏.‏ الجبار‏.‏ المتكبر‏.‏ الخالق‏.‏ البارئ‏.‏ المصور‏.‏ الغفار‏.‏ القهار‏.‏ الوهاب‏.‏ الرزاق‏.‏ الفتاح‏.‏ العليم‏.‏ القابض‏.‏ الباسط‏.‏ الخافض‏.‏ الرافع‏.‏ المعز‏.‏ المذل‏.‏ السميع‏.‏ البصير‏.‏ الحكم‏.‏ العدل‏.‏ اللطيف‏.‏ الخبير‏.‏ الحليم‏.‏ العظيم‏.‏ الغفور‏.‏ الشكور‏.‏ العلي‏.‏ الكبير‏.‏ الحفيظ‏.‏ المقيت‏.‏ الحسيب‏.‏ الجليل‏.‏ الكريم‏.‏ الرقيب‏.‏ المجيب‏.‏ الواسع‏.‏ الحكيم‏.‏ الودود‏.‏ المجيد‏.‏ الباعث‏.‏ الشهيد‏.‏ الحق‏.‏ الوكيل‏.‏ القوي‏.‏ /المتين‏.‏ الولي‏.‏ الحميد‏.‏ المحصي‏.‏ المبدئ‏.‏ المعيد‏.‏ المحيي‏.‏ المميت‏.‏ الحي‏.‏ القيوم‏.‏ الواجد‏.‏ الماجد‏.‏ الأحد ـ ويروي الواحد ـ الصمد‏.‏ القادر‏.‏ المقتدر‏.‏ المقدم‏.‏ المؤخر‏.‏ الأول‏.‏ الآخر‏.‏ الظاهر‏.‏ الباطن‏.‏ الوالي‏.‏ المتعالي‏.‏ البر‏.‏ التواب‏.‏ المنتقم‏.‏ العفو‏.‏ الرؤوف‏.‏ مالك الملك ذو الجلال والإكرام‏.‏ المقسط‏.‏ الجامع‏.‏ الغني‏.‏ المغني‏.‏ المعطي‏.‏ المانع‏.‏ الضار‏.‏ النافع‏.‏ النور‏.‏ الهادي‏.‏ البديع‏.‏ الباقي‏.‏ الوارث‏.‏ الرشيد‏.‏ الصبور‏.‏ الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏)‏‏.‏

ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين، اسمه‏:‏ السبوح، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏سبوح قدوس‏)‏‏.‏ واسمه ‏(‏الشافي‏)‏ كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقمًا‏)‏‏.‏ وكذلك أسماؤه المضافة مثل‏:‏ أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة، وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ ما احتج به الخطابي وغيره، وهو حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أصاب عبدًا قط/هم ولا حزن فقال‏:‏ اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي وهمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفلا نتعلمهن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن‏)‏ رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه‏.‏

قال الخطابي وغيره‏:‏ فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها، وذلك يدل على أن قوله‏:‏ ‏(‏إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة‏)‏، أن في أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة، كما يقول القائل‏:‏ إن لي ألف درهم أعددتها للصدقة، وإن كان ماله أكثر من ذلك‏.‏

والله في القرآن قال‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏، فأمر أن يدعى بأسمائه الحسني مطلقًا، ولم يقل‏:‏ ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسمًا، والحديث قد سلم معناه‏.‏ والله أعلم‏.‏